د.علی میرلوحی فلاورجَانی1
*مقدمة:‏
إن فن التشبیه هو أحد الأرکان الأساسیة للبلاغة العربیة وفصل هام من فصول الإعجاز البیانی للقرآن الکریم ما زال ولا یزال موضع اهتمام مفکری علماء المسلمین الدائبین على معرفة بلاغة القرآن.‏
والذی نحن بصدده فی هذا المقال لیس هو البحث عن أرکان التشبیه ومسائلها وأحکامها؛ فقد کفانا علماء البلاغة مؤونة البحث عنها فی کتبهم؛ بل الذی نهدف إلیه هنا إثبات أمرین:‏
الأول: إن التشبیه فن من فنون التعلیم وأسلوب من أسالیب التفهیم ونقل المعانی العلمیة والأدبیة إلى الآخرین؛ کما یکون وسیلة لإثبات حقائق نظریة أو تجریبیة؛ ولذلک یجب الاهتمام به فی نطاق أوسع من نطاق الموضوعات التی کانت تحدده وتحصره حتى الآن، ومعرفة هذا الأمر مما لابد منه لورود صمیم البحث عن بلاغة القرآن.‏
الثانی: إن القرآن استعمل التشبیه لتبین الحقائق العلمیة والعملیة والمحسوسة والمعقولة، وجعله وسیلة لإثباتها وإقامة البرهان لها؛ وبالتالی تکون أسالیب التشبیه فی القرآن خیر شاهد على ما ادعیناه من عموم نطاقه وشموله المجالات العلمیة والأدبیة کافة:‏
ونبحث عن هذین الأمرین فی قسمین:‏
القسم الأول: استخدام التشبیه أولاً کدلیل لإثبات الحقائق وثانیاً کأداة لإیضاح المعنى المقصود.‏
القسم الثانی: استعمال التشبیه فی القرآن الکریم للغرضین المذکورین وبعد هذه المقدمة الوجیزة نبدأ مقالنا بتفصیل القسم کالآتی:‏
القسم الأول: استخدام التشبیه لإثبات الحقائق ولتوضیح المعنى. إن دراسة الأغراض التی ذکرها البلاغیون، للتشبیه لا تترک مجالاً للشک فی أن الغرض الرئیسی من هذا الفن إما إثبات الحقائق أو تبیین مراد المتکلم وتوضیحه: فإنهم ذکروا فیما ذکروا من أغراضه:‏
1 ـ بیان إمکان المشبه بإیراد التشبیه کبرهان له؛ کما فی قول الشاعر:‏
"فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسک بعض دم الغزال"‏
فقد أراد الشاعر أن یثبت لممدوحه "أنه فاق الأنام وفاتهم(3). إلى حد بطل معه أن یکون بینه وبینهم مشابهة ومقاربة؛ بل صار کأنه أصل بنفسه وجنس برأسه، وهذا أمر غریب، وهو أن یتناهى بعض أجزاء الجنس فی الفضائل الخاصة به إلى أن یصیر کأنه لیس من ذلک الجنس، وبالمدعى له حاجة أن یصحح دعواه فی جواز وجوده على الجملة إلى أن یجیء إلى وجوده فی الممدوح؛ فإذا قال: (فإن المسک بعض دم الغزال)، فقد احتج لدعواه وأبان أن لما ادّعاه أصلاً فی الوجود"(4).‏
والأغراض الثلاثة الباقیة یعود أمرها إلى الإیضاح والتبیین وتفهیم المعنى وتقریبه إلى ذهن السامع أو قلبه بأخصر بیان وأبلغ کلام؛ فإذا قال القائل:"هو کالراقم على الماء"(5) فی تقریر حال من لا یحصل من سعیه على طائل، فقد أخرج المعنى من صورته المعقولة إلى صورة مشابهة لها محسوسة، ووضعه على مسرح الحس والعیان، وفی تبیین مقدار حال المشبه فی قوله تعالى: (الزجاجة کأنها کوکب درّیٌّ((6). ینتقل المخاطب والسامع من الوصف بالسماع إلى الرؤیة بالأبصار، وهذا غایة فی البلاغة والبیان، وکذا یحصل للسامع فی بیان حال المشبَّه فی قوله ـ تعالى ـ: (یوم نطوی السماء کطی السِّجل للکتب((7). من تصور حال المشبَّه ووضوحه مالا یخلفه أی تعبیر ولا یسد مسدَّهُ أی بیان.‏
وقد ذکروا من أغراض التشبیه أیضاً تزیین المشبَّه أو تشویهه أو استطرافه(8)، ولا یخلو أی منها من إفادة بیان وتوضیح.‏
فتبین بما ذکرنا أن أغراض التشبیه کلها تدور حول محورین أساسیین:‏
الأول: استخدامه کبرهان لإثبات الحقائق.‏
الثانی: الاستفادة منه کأحسن أداة لنقل المعنى إلى السامعین بحیث یفهمونه فی أول ما یلقى إلیهم مقروناً بالتشبیه.‏
والتشبیه نظراً إلى المحور الأول یتلاقى هو والتمثیل فی "علم المنطق": بیان ذلک: أن البرهان حسب تقسیم المنطقیین ینقسم إلى ثلاثة أقسام: "القیاس، والاستقراء، والتمثیل"، ویقصدون بالتمثیل: تشبیه جزئی بجزئیٍِ فی معنى مشترک بینهما، لیثبت فی المشبه الحکم الثابت فی المشبه به المعلَّل بذلک المعنى؛ وبعبارة أخرى: المقصود به بیان مشارکة جزئیٍ لجزئیٍ آخر فی علة الحکم لیثبت فیه ذلک الحکم (9)، کما یقال: "النبیذ حرام لأن الخمر حرام". وقد ثبتت علیّة الإسکار للحرمة بدلیل الدوران والتردید (10)، فالتمثیل فی الحقیقة داخل فی إطار التشبیه، کما وأن التشبیه یمکن أن یعتبر من مقولة التمثیل: والنسبة بینهما عموم وخصوص مطلقاً، فکل تمثیل تشبیه، وبعض التشبیه لیس بتمثیل2، ویتمیز التمثیل بأن ما یشترک فیه طرفاه یجعل بدلیل الدوران والتردید علة لتعدیة الحکم الثابت للمشبه به إلى المشبه؛ فقول الشاعر:‏
"وکم أب قد علا بابن ذُرى شرفٍ کما علت برسول الله عدنان"(11)‏
ـ قوله هذا یتحول إلى تمثیل هکذا: بعض الآباء یعلو بأبنائهم؛ لأن عدنان علت برسول الله، وأرکانه الأربعة هی:‏
1 ـ الأصل أو المشبَّه به وهو "عدنان".‏
2 ـ الفرع أو المشبَّه وهو "بعض الآباء".‏
3 ـ الوصف المشترک بینهما أو الجامع، وهو "الانتساب إلى الأبناء".‏
4 ـ النتیجة، وهی الحکم بعلو بعض الآباء بأبنائهم.‏
وتعتمد هذه النتیجة قوة وضعفاً على مستوى صلاحیة الوصف لأن یکون علة للحکم.‏
إن اشتراک المنطقیین والبلاغیین لا ینحصر فی مجال التمثیل؛ فهما یتواردان على قسیم التمثیل وهو الاستقراء؛ فإن الاستقراء عبارة عن تصفّح الجزئیات لإثبات حکم کلی(13)؛ فالمستقرئ عندما یتصفح جزئیات ما یدخل تحت نوع واحد أو جنس واحد ویصل إلى نتیجة واحدة فی غالب الجزئیات أو أغلبها، یحکم بثبوتها لجمیع الجزئیات، والذی ینتهی به إلى هذا الحکم الکلی فی الحقیقة اشتراکها فی المعنى الکلی، أو بتعبیر آخر مشابهتها فی الجنس أو النوع، وهی مشابهة ذکرها علماء البلاغة فی أقسام وجه الشبه(13).‏
المحور الثانی من المحورین الأساسیین اللذین یدور حولهما أغراض التشبیه هو الإیضاح والتفهیم بأخصر بیان وأبلغ کلام، فنقول هناک حالتان ترجع إحداهما إلى نفس المعنى خفاءً وغموضاً أو ظهوراً ووضوحاً، والأخرى إلى المخاطب بلادة وغباوةً أو ذکاءً وتوقداً.‏
فإذا کان المعنى واضحاً وظاهراً وترید أن تجعله أظهر وأوضح، تأتی بتشبیه یوضح ما فی ذات المشبه من الغرائز أو خارج ذاته من العوارض والأوصاف: فتقول: "هو کالأسد فی الشجاعة"، و"هذا أبیض کالثلج"، و"وجهه کالبدر"، وغیرها، وهذا النوع یستعمل فی الأغراض المتداولة کما یستعمل فی المقاصد العلمیة. وإذا کان المعنى غامضاً وخفیاً وترید أن تجعله ظاهراً وواضحاً تأتی بتشبیه لتخرج الخفی والغامض فی صورة الجلّی والواضح؛ کما فی إخراج ما لا یقع علیه الحاسّة إلى ما یقع علیه کقوله تعالى: (والذین کفروا أعمالهم کسراب بِقِیعِة...(. وکما فی إخراج ما لم تجرِ بهِ العادة إلى ما جرت بهِ، نحو قوله تعالى ـ: (وإذا نتقنا الجبل فوقهم کأنه ظُلَّة((15)، وکما فی إخراج ما لا قوة له فی الصفة إلى ما له قوة فی الصفة. نحو قوله تعالى ـ: (وله الجَوارِ المنشآت فی البحر کالأعلام(. (16).‏


وإذا کان المخاطب غبیاً بلیداً ترعى مقتضى حاله وتأتی بتشبیه بسیط کی یفهم المعنى، وکلما کان أغبى زدت فی وضوح التشبیه، وإن کان المخاطب ذکیاً متوقداً وترید أن تسبر غور فهمه وذکائه أو تثیر إعجابه وتحسینه، فتأتی له بتشبیه یحتاج إلى التأوّل الذی یتطلب تأمل المخاطب ودقته وهو ما یسمى بالتمثیل3. ویقول الإمام الجرجانی فی البحث عنه ما ملخصه: "ثم إن ما طریقه التأویل یتفاوت تفاوتاً شدیداً فمنه مایقرب مأخذه ویسهل الوصول إلیه ویعطی المقادة (17)، طوعاً حتى أنه یکاد یداخل الضرب الأول [وهو التشبیه الذی لا یحتاج إلى التأول] مثل تشبیه الحجة بالشمس فی إزالة الحجاب، ومنها ما یحتاج فیه إلى شیء من التلطّف وهو أدخل قلیلاً فی حقیقة التأول وأقوى حالاً فی الحاجة إلیه، کما فی تشبیه ألفاظ الکلام بالعسل فی الحلاوة، ومنه ما تقوى فیه الحاجة إلى التأول حتى لا یعرف المقصود من التشبیه فیه ببدیهة السّماع کقول القائل: "هم کالحلقة المفرغة لا یدرى أین طرفاها"(18).‏
وصفوة القول فی هذا القسم أن التشبیه یستخدم إما کبرهان لإثبات المدعى وهوما یسمى فی علم المنطق بالتمثیل ویمکن أن یسمى فی علم البلاغة بالتشبیه البرهانی وإما کأحسن أداة لإیضاح المعنى المقصود وهو مایمکن أن یسمى بالتشبیه البیانی.‏
وبعد هذا البحث الموجز حول الغرضین الرئیسیین للتشبیه آن لنا أن ندخل صمیم الموضوع، وهو بلاغة التشبیه فی القرآن الکریم کما وعدنا أن نبحث عنه فی:‏
القسم الثانی : استعمال التشبیه فی القرآن:‏
1 ـ لإثبات الحقائق.‏
2 ـ ولتوضیح المعنى.‏
ألف ـ أما استعماله لإثبات الحقائق، فیجب القول بأن هذا النوع مع ماله من الأهمیة فی البحث عن الأسالیب البیانیة فی کلام الله ـ سبحانه ـ لم یحظ بعنایة من علماء البلاغة، ولم یعیروه اهتماماً أو أغفلوا عنه، فهذا العالم الفاضل البارع ابن ناقیا البغدادی قد ألَّف کتاب "الجمان فی تشبیهات القرآن"، ولم یذکر شیئاً من تشبیهاته البرهانیة.‏
ولعل السبب الذی حمل ابن تاقیا ومن حذا حذوه أن یترک هذا النوع هو أن البحث عن بلاغة القرآن وإعجازه البیانی یستلزم المقایسة والمقارنة وبالتالی تنزیه کلام الله ـ تعالى ـ عن أن یکون له نظیر أو شبیه من کلام البشر، وما یوجد فی کلام فصحاء العرب وشعرائهم إنما یکون غالباً من نوع التشبیه البیانی؛ ولذلک صرف البلاغیون جلَّ اهتمامهم إلى الکشف عن بدائع التشبیهات البیانیة دون البرهانیة منها.‏
ومهما یک من أمر هؤلاء العلماء وترکهم التشبیهات البرهانیة فقد وقع فی روعی أن أفکر فیها وأبحث عنها وأفتح طریقاً جدیداً أمام الملمین بتشبیهات التنزیل العزیز.‏
ولا یمکننی فی هذا المقال أن أفصِّل القول فیها، ولذلک أحاول أن أعرض على القارئ الکریم نماذج منها فی الموضوعات المختلفة کالآتی:‏
1 ـ إثبات توحید الله ـ سبحانه ـ بالتشبیه البرهانی:‏
من الواضح أن إثبات التوحید بالتشبیه البرهانی لا یتأتّى إلا فی القضیة السالبة لا الموجبة؛ لأنه ـ تعالى ـ بالبرهان العقلی وبالدلیل النقلی کما فی قوله ـ سبحانه ـ: (لیس کمثله شیء لله(19) تنزه عن أن یکون له مثل أو نظیر فکیف یمکن إثبات وحدانیته بالقیاس إلى غیره قیاساً إیجابیاً. أما إثبات توحیده بالتشبیه البرهانی وفی قضیة سالبة تقرن بدلیل ینفی المشابهة والمماثلة بین الله وغیره فهذا أمر ممکن؛ ومما جاء منه فی کلام الله تعالى قوله: (أفمن یخلق کمن لا یخلق...((20).‏
فقد نفى لله حکم المساواة والمماثلة بین طرفی التشبیه المفروض وقرن به العلّة وهی تضادّ الطرفین فی أن المشبه المفروض قادر على الخلق والمشبه به المفروض غیر قادر علیه؛ فینتفی بذلک المشابهة(21)، فعلى هذا لا نحتاج إلى تکلف حمل التشبیه فی الآیة الکریمة على التشبیه المقلوب حسب زعم المخاطبین بالآیة وهم المشرکون (22)؛ لأن الکلام لیس فی مقام ترجیح أحد طرفی التشبیه، بل فی مقام افتراض تسویة المخلوق بالخالق والأصنام والأوثان برب العالمین ونفیها بالاستفهام الإنکاری.‏
ویعضد ما بینّاه من معنى التشبیه فی الآیة قوله ـ تعالى ـ فی سورة أخرى (أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَکَاءَ خَلَقُوا کَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَیْهِمْ((23) فقد بیّن الله ـ تعالى ـ أنَّ ما یمکن أن یجعل علة لاتخاذ شریک له فی العباد هو القدرة على الخلق، وهی منتفیة من المخلوق بالوجدان والبداهة، وهذه العلة هی نفس ما یشعر به قوله: (أَفَمَنْ یَخْلُقُ کَمَنْ لا یَخْلِقُ(، وقوله بعد آیة: (والَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا یَخْلِقُونَ شَیْئَاً وهُمْ یُخْلَقُون((24)، وکذلک یقوّی ما ذکرناه قوله ـ تعالى ـ حکایة عن المشرکین مخاطبین آلِهَتَهم ـ: (تاللهِ إِنْ کُنَّا لَفِیِ ضَلالٍ مُبِینٍ إِذْ نُسَوِّیکُمْ بِرَبِّ الْعَلَمِینَ((25).‏
3 ـ إثبات المعاد بالتشبیه البرهانی:‏
ألف: قیس العود بالبدء؛ کما فی قوله ـ تعالى ـ: (کَمَا بَدَأکُمْ تَعُودُون((36)، فیؤوّل الکلام إلى: "عودکم ممکن ومحقق فی المستقبل؛ لأن خلقکم أول مرة کان جائزاً وقد تحقق"، فقد شبه العود بالبدء فی الحکم بجوازه وإمکانه بسبب أمر مشترک بینهما، وهو استغراب الوجود فی البدء والعود أولاً وإزالته بالتعقل والتفکر فی قدرة الله التی بها یزول کل استغراب وإلیها ینتهی أمر کل خلق.‏
وجاء فی القرآن آی أخرى قد قیس فیها أمر العود بالبدء بالتشبیه البرهانی؛ منها:‏
قوله تعالى: (کما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِدُهُ((27) وغیرها(28).‏
ب: قیاس إحیاء الموتى بإحیاء الأرض؛ کما فی قوله ـ تعالى ـ: (وَهُوَ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیَاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا اَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَیِّتٍ فَأنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأَخْرَجْنَا بهِ مِنْ کُلِّ الثَّمَراتِ کَذلِکَ نُخْرِجُ المَوْتَى((19)، والتشبیه البرهانی أو التمثیل المنطقی فی هذه الآیة هو: "إحیاء الموتى ممکن ومحقق، والجامع بینهما هو الاستغراب المرتفع بالتأمل فی قدرة الله تعالى.‏
ومن الآی التی یستنبط منها هذا البرهان قوله ـ تعالى ـ: (یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ المیِّتِ ویُخْرِجُ المَیِّتَ مِنَ الحَیِّ ویُحْیْی الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وکذلک تُخْرَجُون((30)، وآیات أخرى (31).‏
3 ـ إثبات قدرة الله ـ تعالى ـ بالتشبیه البرهانی:‏
وقد هدى الله ـ سبحانه- العباد على قدرته بإیراد التشبیه البرهانی کما فی قوله: (إِنْ یَشَأ یُذْهِبْکُمْ ویَسْتَخْلِف مِنْ بَعْدِکُمْ ما یَشاءُ کما اَنْشَأَکُمْ مِنْ ذُرِّیَّةِ قَوْمٍ آخَرینَ((32)؛ فقد قیست قدرته على إذهاب المخاطبین واستخلاف ما یشاء من الخلق بعدهم ـ قیست قدرته تلک بإنشائهم من ذریة قوم آخرین.‏
ومن هذا القسم قوله ـ تعالى ـ: (... ویُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکَ وعلى ِآلِ یَعْقُوبَ کما أتَمَّها على أَبَوَیْکَ مِنْ قَبْلُ...(. (33). وآیات أخرى (34).‏
والتشبیهات البرهانیة هذه، لیست بقلیلة فی القرآن الکریم ولا یسعنا فی هذا المجال استیعاب جمیعها، فنکتفی بالنماذج المذکورة وندع تفصیلها لفرصة أخرى.‏
ب: التشبیهات البیانیة فی القرآن الکریم.‏
ورد فی التنزیل تشبیهات لا فی مقام الاستدلال على وجود شیء أو إثبات حکم لموضوع؛ بل فی مقام التوضیح والتبیین اللذین لا ینحصران فی الحالات المعدودة التی ذکرت فی کتب البلاغة؛ بل یشملانها وغیرها مما وجدت إلى بعضه سبیلاً؛ منه:‏
1 ـ تقریب المعنى إلى نفس المخاطب وتصویره فی خیاله، وذلک فی مقام وصف نعیم الآخرة أو عذابها وما أعد فیها للمطیعین وأصحاب الجنة أو العاصین وأصحاب النار؛ فبما أن أنواع النعمة أو العذاب فی الآخرة لا تکون من جنس نعیم الدنیا أو عذابها، فلا یمکن تشبیه إحداهما بالأخرى إلا على سبیل التقریب؛ کوصف الحور والغلمان والأکواب والآنیة وغیرها (35).‏
2 ـ التسویة بین الشیئین المماثلین فی الحکم أو الأثر(36).‏
3 ـ المکافأة والمجازاة.‏
ولا یفید هذا المعنى من أدوات التشبیه إلا"الکاف" نحو قوله ـ تعالى: (وقل ربِّ ارحمهما کما ربیانی صغیراً((37)، وقوله ـ سبحانه ـ: (وأحسن کما أحسن الله إلیک((38)، وقوله ـ عز وجل ـ: (فالیوم ننساهم کما نسوا لقاء یومهم هذا((39)، و(40).‏
هذه هی بعض ما استطعت أن أجد له سبیلاً من الأغراض البیانیة المصوغ لها بعض التشبیهات القرآنیة، ولعلنا إذا أنعمنا النظر فی کلام الله ـ سبحانه ـ نستطیع أن نکشف النقاب عن بعضها الآخر.‏
وکما أشرنا سابقاً لم یهتم علماء البلاغة فی بحثهم عن تشبیهات القرآن إلا بالتشبیهات البیانیة، سواء فی بحوثهم العامة عن البلاغة، أو فیما خصوه ببلاغة القرآن وتشبیهاته؛ وممن خصص کتاباً بها ابن ناقیا البغدادی الذی سبق ذکره وذکر کتابه "الجمان فی تشبیهات القرآن".‏
ویمتاز هذا الکتاب باستخدام الأسلوب النقدی فی عرض بلاغة أکثر التشبیهات: أعنی أنه أولاً یعرض تشبیه الآیة وبراعتها وبهاءها وما استطاع أن یستنبط من محسَّناتها ثم یتبعه بإیراد تشبیهات من نفس التشبیه فی أشعار العرب، ویذکر أحیاناً محاسنها وما یؤخذ علیها، وبالتالی یصل القارئ نتیجة هذا العرض والإیراد إلى أنه لا یمکن قیاسها بتشبیهات القرآن ویتبین له أن مافی القرآن فرید فی نوعه لا یدرکه بعد الهمم ولا یناله غوص الفطن.‏
وربما یصرح بهذه النتیجة المفهومة والمستنبطة من أسلوبه النقدی؛ فهو مثلاً بعد ذکره تشبیه الآیة: (ثم قست قلوبکم من بعد ذلک فهی کالحجارة أو أشدُّ قسوة((41)، ونقله أبیاتاً من شعراء العرب وقع فیها هذا التشبیه، یقول: "ومعنى التشبیه بعد أن أتم وأوفى وأعلى بقوله ـ تعالى ـ: (وإن منها لما یهبط من خشیة الله....(. (42)؛ وکذلک بعد نقل تشبیه الآیة الکریمة: (وعندهم قاصرات الطَّرِفِ عینٌ کأنَّهُن بَیضٌ مکنون(. (43)، وذکر شعر عدی بن زید العبادی المتضمن لنفس التَشبیه (44) ـ بعد ذلک کله یقول: "........... إلا أنه لم یوصف البَیض فی هذا الباب بأحسن ولا أجمع لمعانی الوصف مما نطق به التنزیل؛ فإن لفظة "مکنون" متضمنة معنى السلامة والخلوص من جمیع العوارض التی تنتقص رونقه وتشین بیاضه وتکسف بهاءه..."(45). ویزید تأکیداً لما بیّنه من محاسن کلام الله: "وعلى إکثار الشعراء من تشبیه النساء ووصفه بما یدل على حال المشبَّه به، فما أتوا ببلاغة تشبیه القرآن ولا قدروا على نقل لفظة [المکنون]. من هذا المکان وقد أطالوا وأقصروا وأوردوا وأصدروا....".(46). وینقل جملة من أشعار الجاهلیین والمخضرمین والإسلامیین فی مثل ذلک التشبیه، وبینها وبین التشبیه فی کلام الله بون لا یتصوره مداه وغور لا یدرک منتهاه.‏
فابن ناقیا یعدّ بحق أول من فتح الطریق أمام من یرید دراسة بلاغة القرآن بالنقد والتحقیق، وکتابه "الجمان" یعد من أهم مصادر تشبیهات القرآن، وندع ا لبحث عن محاسنه وما یؤخذ علیه لوقت آخر إن شاء الله تعالى؛ وهو الموفق للسداد، ونرجو فی جمیع أمورنا منه الرشاد.‏
انتهى بتوفیق الله تعالى.